فصل: تفسير الآيات (99- 103):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النكت والعيون المشهور بـ «تفسير الماوردي»



.تفسير الآية رقم (93):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}
قوله تعالى: {خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} يعني بجد واجتهاد.
{وَاسْمَعُواْ} فيه تأويلان:
أحدهما: يعني فاعملوا بما سمعتم.
الثاني: أي اقبلوا ما سمعتم، كما قيل سمع الله لمن حمده، أي قبل الله حمده، وقال الراجز:
السمعُ والطاعة والتسليم ** خير وأعفى لبني تميم

{قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} فيه تأويلان:
أحدهما: أنهم قالوا ذلك حقيقة، ومعناه سمعنا قولك وعصينا أمرك.
والثاني: أنهم لم يقولوه ولكن فعلوا ما دل عليه، فقام الفعل منهم مقام القول كما قال الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قَطْني ** مهلاً رويداً قد ملأت بطني

{وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} فيه تأويلان:
أحدهما: أن موسى برد العجل وذرّاه في الماء، فكان لا يشربه أحد يحب العجل إلا ظهرت نخالة الذهب على شفتيه، وهذا قول السدي، وابن جريج.
والثاني: أنهم أُشربوا حب العجل في قلوبهم، يقال أُشرِبَ قلبه حبَّ كذا، قال زهير:
فصحوتُ عنها بعد حبٍّ داخل ** والحبُّ تُشربه فؤادَك: داءُ

.تفسير الآيات (94- 96):

{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُون النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} يعني اليهود تزعم أن الجنة خالصة لهم من دون الناس، وفيه قولان:
أحدهما: من دون الناس كلهم.
والثاني: من دون محمد وأصحابه الذين آمنوا به، وهذا قول ابن عباس.
فقيل: {فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} لأنه من اعتقد أنه من أهل الجنة، كان الموت أحب إليه من الحياة، لما يصير إليه من نعم الجنة، ويزول عنه من أذى الدنيا، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَو أَنَّ اليَهُودَ تَمَنَّوُا المَوتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَامَهُم مِنَ النَّارِ». ثم قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوهُ أَبَدا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} تحقيقاً لكذبهم، وفي تركهم إظهار التمني قولان:
أحدهما: أنهم علموا أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك لم يتمنوه وهذا قول ابن عباس.
الثاني: أن الله صرفهم عن إظهار التمني، ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} يعني اليهود.
{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} يعني المجوس، لأن المجوس هم الذين {يَودُّ أَحَدُهُمْ لو يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}، كان قد بلغ من حبهم في الحياة أن جعلوا تحيتهم (عش ألف سنة) حرصاً على الحياة، فهؤلاء الذين يقولون: أن لهم الجنة خالصة أحب في الحياة من جميع الناس ومن هؤلاء. {وَمَا هُو بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ} أي بمباعده من العذاب {أَن يُعْمَّرُ} لأنه لو عمَّر ما تمنى، لما دفعه طول العمر من عذاب الله على معاصيه.

.تفسير الآيات (97- 98):

{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)}
قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ} وسبب نزول هذه الآية، أن ابن صوريا وجملة من يهود (فدك)، لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة سألوه، فقالوا: يا محمد كيف نومك؟ فإنه قد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان، فقال: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَقَلْبِي يَقْظَانُ» قالوا: صدقت يا محمد، فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة؟ فقال: «أَمَّا العِظَامُ وَالعَصَبُ وَالعُرُوقُ فَمِنَ الرَّجُلِ، وَأَمَّا اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَالظُّفْر وَالشَّعْر فَمِنَ المَرْأَةِ» قالوا: صدقت يا محمد، فما بال الولد يشبه أعمامه، ليس فيه من شبه أخواله شيء، أو يشبه أخواله، ليس فيه من شبه أعمامه شيء؟ فقال: «أيهما علا ماؤه كان الشبه له» قالوا: صدقت يا محمد، فأخبرنا عن ربك ما هو؟ فأنزل الله تعالى: قال {هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 1] إلى آخر السورة، قال له ابن صوريا: خصلة إن قلتها آمنتُ بك واتبعتُك، أي ملك يأتيك بما يقول الله؟ قال: «جبريل»، قال: ذاك عدونا، ينزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينزل بالبشر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك آمنا بك، فقال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند ذلك: فإني أشهد أن من كان عدّواً لجبريل، فإنه عدو لميكائيل، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأما جبريل وميكائيل فهما اسمان، أحدهما عبد الله والآخر عبيد الله، لأن إيل هو الله وجبر هو عبد، وميكا هو عبيد، فكان جبريل عبد الله، وميكائيل عبيد الله، وهذا قول ابن عباس، وليس له من المفسرين مخالف.
فإن قيل: فلم قال: {مَن كَانَ عَدُوَّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌ لِلْكَافِرِينَ} وقد دخل جبريل وميكائيل في عموم الملائكة فلِمَ خصهما بالذكر؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنهما خُصَّا بالذكر تشريفاً لهما وتمييزاً.
والثاني: أن اليهود لما قالوا جبريل عدوّنا، وميكائيل ولينا، خُصَّا بالذكر، لأن اليهود تزعم أنهم ليسوا بأعداء لله وملائكته، لأن جبريل وميكائيل مخصوصان من جملة الملائكة، فنص عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص، ثم قال تعالى: {فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ}، ولم يقل لهم، لأنه قد يجوز أن ينتقلوا عن العداوة بالإيمان.

.تفسير الآيات (99- 103):

{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}
قوله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} اختلف أهل التفسير في سبب ذلك، على قولين:
أحدهما: أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويستخرجون السحر، فَأَطْلَعَ الله سليمان ابن داود عليه، فاستخرجه من أيديهم، ودفنه تحت كرسيه، فلم تكن الجن تقدر على أن تدنو من الكرسي، فقالت الإنس بعد موت سليمان: إن العلم الذي كان سليمان يُسَخِّر به الشياطين والرياح هو تحت كرسيه، فاستخرجوه وقالوا: كان ساحراً ولم يكن نبياً، فتعلموه وعلّموه، فأنزل الله تعالى براءة سليمان بهذه الآية.
والثاني: أن (آصف بن برخيا) وهو كاتب سليمان وَاطَأَ نَفَراً من الشياطين على كتاب كتبوه سحراً ودفنوه تحت كرسي سليمان، ثم استخرجوه بعد موته وقالوا هذا سحر سليمان، فبرأه الله تعالى من قولهم، فقال: {وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ}، وهم ما نسبوه إلى الكفر، ولكنهم نسبوه إلى السحر، لكن لما كان السحر كفراً صاروا بمنزلة من نسبه إلى الكفر.
قال تعالى: {وَلَكْنَّ الشَيَاطِينَ كَفَرُوا} فيه قولان:
أحدهما: أنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر.
والثاني: أنهم كفروا بما استخرجوه من السحر.
{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنهم ألقوه في قلوبهم فتعلموه.
والثاني: أنهم دلوهم على إخراجه من تحت الكرسي فتعلموه.
{وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَينِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} وفي {مَا} ها هنا وجهان:
أحدهما: بمعنى الذي، وتقديره الذي أنزل على الملكين.
والثاني: أنها بمعنى النفي، وتقديره: ولم ينزل على الملكين.
وفي الملكين قراءتان: إحداهما: بكسر اللام، كانا من ملوك بابل وعلوجها هاروت وماروت، وهذا قول أبي الأسود الدؤلي، والقراءة الثانية: بفتح اللام من الملائكة.
وفيه قولان:
أحدهما: أن سحرة اليهود زعموا، أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك، وفي الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، وهما رجلان ببابل.
والثاني: أن هاروت وماروت مَلَكان، أَهْبَطَهُما الله عز وجل إلى الأرض، وسبب ذلك، أن الله تعالى لما أطلع الملائكة على معاصي بني آدم، عجبوا من معصيتهم له مع كثرة أَنْعُمِهِ عليهم، فقال الله تعالى لهم: أما أنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم، فقالوا: سبحانك ما ينبغي لنا، فأمرهم الله أن يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت فأُهْبِطَا إلى الأرض، وأحل لهما كل شيء، على ألا يُشْرِكا بالله شيئاً، ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فعرضت لهما امرأة وكان يحكمان بين الناس تُخَاصِمُ زوجها واسمها بالعربية: الزهرة، وبالفارسية: فندرخت، فوقعت في أنفسهما، فطلباها، فامتنعت عليهما إلا أن يعبدا صنماً ويشربا الخمر، فشربا الخمر، وعبدا الصنم، وواقعاها، وقتلا سابلاً مر بهما خافا أن يشهر أمرهما، وعلّماها الكلام الذي إذا تكلم به المتكلم عرج إلى السماء، فتكلمت وعرجت، ثم نسيت ما إذا تكلمت به نزلت فمسخت كوكبا، قال: كعب فوالله ما أمسيا من يومهما الذي هبطا فيه، حتى استكملا جميع ما نهيا عنه، فتعجب الملائكة من ذلك. ثم لم يقدر هاروت وماروت على الصعود إلى السماء، فكانا يعلّمان السحر.
وذكر عن الربيع أن نزولهما كان في زمان (إدريس).
وأما السحر فقد اختلف الناس في معناه:
فقال قوم: يقدر الساحر أن يقلب الأعيان بسحره، فيحول الإنسان حماراً، وينشئ أعياناً وأجساماً.
وقال آخرون: السحر خِدَع وَمَعَانٍ يفعلها الساحر، فيخيل إليه أنه بخلاف ما هو، كالذي يرى السراب من بعيد، فيخيل إليه أنه ماء، وكواكب السفينة السائرة سيراً حثيثاً، يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائرة معه.
وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سَحَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يهوديٌ من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخيّل إليه أنه يفعل الشيءَ وما فعله.
قالوا: ولو كان في وسع الساحر إنشاء الأجسام وقلب الأعيان عما هي به من الهيئات، لم يكن بين الباطل والحق فصل، ولجاز أن يكون جميع الأجسام مما سحرته السحرة، فقلبت أعيانها، وقد وصف الله تعالى سحرة فرعون {فَإِذَا حِبَالُهُمُ وَعِصِيُّهُمُ يُخَيَّلُ إِليْهِ مِن سِحْرِهِم أَنَّهَا تَسْعَى}.
وقال آخرون: وهو قول الشافعي إن الساحر قد يوسوس بسحره فيمرض وربما قتل، لأن التخيل بدء الوسوسة، والوسوسة بدء المرض، والمرض بدء التلف.
فأما أرض {ببابل} ففيها ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها الكوفة وسوادها، وسميت بذلك حيث تبلبلت الألسن بها وهذا قول ابن مسعود.
والثاني: أنها من نصيبين إلى رأس عين، وهذا قول قتادة.
والثالث: أنها جبل نهاوند. وهي فطر من الأرض.
{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُر} بما تتعلمه من سحرنا.
{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} في المراد بقوله {منهما} ثلاثة أوجه:
أحدها: يعني من هاروت وماروت.
والثاني: من السحر والكفر.
والثالث: من الشيطان والملكين، فيتعلمون من الشياطين السحر، ومن الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه.
{وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ} يعني السحر.
{إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} فيه تأويلان:
أحدهما: يعني بأمر الله.
والثاني: بعلم الله.
{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} يعني ما يضرهم في الآخرة، ولا ينفعهم في الدنيا.
{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} يعني السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه.
{مَا لهُ فِي الأَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن الخلاق النصيب، وهو قول مجاهد والسدي.
والثاني: أن الخلاق الجهة، وهو قول قتادة.
والثالث: أن الخلاق الدين، وهو قول الحسن.
قوله عز وجل: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَواْ بِهِ أَنفُسَهُم لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فيه تأويلان:
أحدهما: يعني ولبئس ما باعوا به أنفسهم من السحر والكفر في تعليمه وفعله.
والثاني: من إضافتهم السحر إلى سليمان، وتحريضهم على الكذب.